الداعي نيوز / تقارير

تعاقبت الحكومات المركزية وتعددت توجاهاتها ودارت عدة دورات برلمانية في ظل العملية الديمقراطية التي جاءت بعد الاطاحة بالنظام الدكتاتوري عام 2003، وأتت وجوه سياسية ورحلت اخرى ، ولم تهدأ رياح التجاذبات بين اربيل وبغداد ، وبقيت المشكلات تسافر من دورة الى اخرى دون ان تستقر في محطة لتلقي بأحمالها وتستريح .

العلاقة بين الحكومة المركزية في بغداد واقليم كردستان لاتبدو دوما في احسن حالاتها، فهي مثل الحمى تشتد حينا وتهدأ حينا ، ولم يفعل رؤساء الحكومات المتعاقبة منذ حكومة اياد علاوي مرورا بالجعفري والمالكي وحيدر العبادي وليس انتهاء بعبد المهدي ، اي اتفاق لحلحة القضايا مع الاقليم ، ولكن تبدو العلاقة سالكة هذه المرة نسبيا، رغم الصعوبات ، ويبدو ايضا ان حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي فتحت الباب امام الاقليم ليدلوَ بدلوه.

من الأرشيف لزيارة الكاظمي إلى اقليم كردستان في 10/9/2020

خلافات دستورية حول المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها والمادة 110 الخاصة بالنفط والغاز ومسائل خلافية حول السياسة النفطية بين الطرفين والتي لم تحل منذ عام 2015 اضافة الى الطريقة التي يتعامل بها الطرفان مع ملف النفط والرواتب، وحصة الإقليم من الموازنة المالية، وغيرها من مشكلات فرعية تضاف الى ابرز التحديات التي تحول دون توافق بين المركز والاقليم، حيث ظلت جميع الحلول ترقيعية في كل ولاية رئيس للوزراء وكل دورة برلمانية ، كما أدى الخلاف العصي بين بغداد وأربيل إلى تشجيع إيران وتركيا والارهاب والجماعات المسلحة على تنفيذ عمليات عسكرية داخل حدود الإقليم  وهددت امنه واستقراره.

في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، شهدت العلاقة بين بغداد وأربيل هدوءاً نسبياً حيث تراجعت بعض القوى الشيعية عن انتقاداتها لإقليم كردستان، وأبرزها تحالف "الفتح" بزعامة هادي العامري، الذي تقارب بشكل كبير مع رئيس إقليم كردستان السابق مسعود بارزاني .

العلاقة بين الحكومة المركزية في بغداد واقليم كردستان لاتبدو دوما في احسن حالاتها، فهي مثل الحمى تشتد حينا وتهدأ حينا

استبشرت أربيل خيرا بحكومة عبد المهدي حينها ، والتي أبرمت اتفاقاً يقضي بدفع بغداد جميع رواتب إقليم كردستان للمرة الأولى منذ العام 2014 مقابل قيام أربيل بتسليم واردات 250 ألف برميل نفط من بين 500 ألف برميل تصدرها كردستان بشكل مستقل، لكن ما حدث ان اربيل  لم تلتزم بهذا الاتفاق بشكل كامل وتغاضت حكومة عبد المهدي، عن ذلك كي لا تحرج اصدقاءها الكرد ، ولم يتم الكشف عن خرق الاتفاق حتى استقالة حكومة عبد المهدي وتسلم مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة على خلفية احتجاجات وتظاهرات شعبية واسعة عمّت مدن الجنوب وبغداد واسقطت حكومة عبد المهدي .

النفط مقابل الرواتب .. اتفاق هش لم يفعّل بشكل واضح لا من طرف بغداد ولا حتى اربيل التي رحبت بالاتفاق لانقاذ اقتصادها المتداعي وعدم صرف رواتب موظفيها لعدة اشهر وسط سخط شعبي كردي، ويقضي الاتفاق بان تسلم أربيل ما قيمته 250  ألف برميل نفط يومياً مقابل تسديد بغداد رواتب موظفي الاقليم ، وجاءت موازنة 2021 لتضمن الاتفاق بعد زيارات مكوكية شبه اسبوعية لمسؤولين اكراد رفيعي المستوى الى بغداد وتدخل واشنطن على خط الازمة.

من ارشيف زيارة رئيس اقليم كردستان إلى بغداد في 10/4/2021

 وجاءت ازمة كردستان المالية بعد ان اوقف الكاظمي في مايو 2020 دفع رواتب موظفي الإقليم البالغة نحو نصف مليار دولار شهرياً، بسبب الأزمة المالية التي جعلته أمام خطر صعوبة دفع رواتب الموظفين في الوزارات والمؤسسات الاتحادية، والتي فاقمتها ازمة جائحة كورونا .

وبدأت سلسلة مفاوضات مكثفة وزيارات لكبار مسؤولي الإقليم إلى بغداد شملت رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني ونائب رئيس الحكومة قوباد طالباني لكنها أخفقت جميعها في التوصل إلى اتفاق ، ورغم العلاقة الشخصية التي تجمع الكاظمي مع قادة كردستان لكنه أبلغهم صراحة بصعوبة دفع مستحقات الإقليم المالية بالكامل بسبب الأزمة المالية التي تضرب البلاد والتي اضطرت حكومة الكاظمي إلى الاقتراض الخارجي بقيمة 5 مليارات دولار، والاستدانة من المصارف المحلية لتوفير رواتب أشهر يونيو ويوليو وأغسطس 2020 .

النفط مقابل الرواتب .. اتفاق هش لم يفعّل بشكل واضح لا من طرف بغداد ولا حتى اربيل التي رحبت بالاتفاق لانقاذ اقتصادها المتداعي وعدم صرف رواتب موظفيها لعدة اشهر وسط سخط شعبي كردي

وجعل الكاظمي الدستور هو الفيصل في حسم الخلافات القائمة بين المركز والاقليم ، خصوصاً المالية منها، وطالب الكاظمي  بإيرادات إقليم كردستان مقابل دفع مبلغ ( 453 ) مليار دينار للإقليم فقط، وهو ما يعادل أقل من نصف نفقات الرواتب في إقليم كردستان، إلى جانب افتتاح معبر حدودي جديد يخضع لسيطرة بغداد مباشرة بين تركيا والعراق عبر الموصل، ومعبر إبراهيم الخليل.

ولم تكن الخلافات المالية وحدها من تقف وراء تحسن العلاقة بين بغداد والاقليم على مدى سنوات، لكن دخلت على الخط "صواريخ الكاتيوشا "التي استهدفت مطار أربيل من قبل جماعات مسلحة خارجة عن القانون عدة مرات وهددت استقرار كردستان لوضع العقبات أمام علاقة الاقليم بالمركز ،اضف الى ذلك تهديد عناصر داعش المستمر في المناطق التي تشهد فراغا امنيا بين المركز والاقليم وكذلك تهديدات حزب العمال المتكررة لامن الاقليم .

من الأرشيف مظاهرات شعبية في محافظات الإقليم احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية وقطع الرواتب

وبين شد وجذب اقرت موازنة 2021 وتضمنت حقوق كردستان مثلما اراد الكرد في سابقة اكدت ارادة الطرفين بفتح صفحة جديدة اساسها العلاقة المتوازنة والاحترام المتبادل وحل المشكلات الازلية بين المركز والاقليم .

وقال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي : إن العلاقة بين بغداد وأربيل "في عصرها الذهبي"، مؤكدا أن حكومته ستقدم مقترحاً إلى إقليم كوردستان لحل أزمة "الفراغ الأمني" الذي يستغله تنظيم داعش في المناطق المتنازع عليها،وقال في حديث مع عدد الصحفيين "نحتاج إلى تأسيس للثقة بين الكورد والعرب لحل أزمة المناطق المتنازع عليها، مضيفا انه عمل مع القيادات الكردستانية على تفكيك سوء الفهم بين بغداد وأربيل، كما اكد على حل ملف المستحقات المالية لإقليم كوردستان، قائلا إنها ستصل قريباً،معتبرا  "العلاقة بين بغداد وأربيل اليوم في عصرها الذهبي بسبب حجم الثقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم".

كما قال نيجيرفان بارزاني ،ان الخلافات بين بغداد واربيل من الممكن ان تحل بالارادة السياسية لدى الطرفين ، ما يؤكد ان هنالك بوادر انفراج لحل المشكلات بين المركز والاقليم ويؤكد ايضا النية الحقيقية لدى الطرفين بالولوج في عمق الازمة وتفكيكها بعد ان اتضح ان لاخيار امام الجميع الا الحوار البناء، كما قد تعجل التحالفات الشفوية الحالية قبيل الانتخابات المبكرة في تشرين الاول المقبل  بين بعض القوى الشيعية والاكراد من حل قد يكون جذريا لانهاء الخلافات القائمة منذ سنين .

يبقى هاجس الاكراد الابرز هو تلك القوى السياسية التي تمتلك فصائل مسلحة قد تهدد امن واستقرار الاقليم في ظل حكومة تتقاذفها الازمات والتحديات من كل جانب 

في منتصف حزيران الحالي قال رئيس حكومة اقليم كردستان مسرور بارزاني في تدوينة له، "تحدثتُ مع رئيس الوزراء الاتحادي، مصطفى الكاظمي في إطار المفاوضات المستمرة والالتزام في جعل العلاقة بين أربيل وبغداد أكثر وضوحاً، وأضاف "يسرني أن أعلن عن التوصل إلى اتفاق سيتم بموجبه إعادة إرسال المستحقات من الموازنة الاتحادية إلى إقليم كردستان بأثر رجعي ابتداءً من يناير/كانون الثاني الماضي".

ما اثار سخط قوى شيعية تعترض اصلا على دفع مستحقات الاقليم مثل تحالف الفتح الذي اعلن على لسان زعيمه هادي العامري انه يرفض دفع هذه المبالغ الى الاقليم .

ونصّ الاتفاق الذي أبرمه ممثلون عن الإقليم مع نظراء لهم من الحكومة الاتحادية والبرلمان مطلع العام الجاري على أن يقوم الإقليم بتسليم  460  ألف برميل نفط يوميا لشركة "سومو" الوطنية، مقابل حصوله على نسبته في الموازنة البالغة  12.6 بالمائة .

وكان البرلمان العراقي أقر مطلع شباط الماضي الموازنة المالية لعام 2021، بنفقات إجمالية تبلغ 129 تريليون دينار (نحو 88 مليار دولار)، وبعجز 28 تريليون دينار (نحو 19 مليار دولار).

العلاقة بين بغداد واربيل اليوم تشهد "شهر عسل" قد يطول او يقصر، لكن يبدو ان الساسة الكرد قد ادركوا  مصلحة الاقليم واين تكمن، وقد تكون هنالك ثمة تنازلات لاجل المضي بكردستان اقليما وانموذجا في المنطقة وادركوا ايضا ان الخلافات لن تجلب سوى مزيد من التعقيد في العلاقة بين المركز والاقليم.

لكن يبقى هاجس الاكراد الابرز هو تلك القوى السياسية التي تمتلك فصائل مسلحة قد تهدد امن واستقرار الاقليم في ظل حكومة تتقاذفها الازمات والتحديات من كل جانب .

ومن الممكن القول ان القوى السياسية المعتدلة وبضمنها القوى الكردية ادركت ان  قوة العراق من قوة حكومته الاتحادية والاقليم ، فالتهديدات تبدو اقوى من الخلافات، فما بين تهديدات تركيا وايران المستمرة لامن الاقليم وحزب العمال وتهديدات داعش يبقى الخيار هو الحوار الحقيقي البناء لحل المشكلات بين كردستان وبغداد، ليغادر البلد ازمة وينشغل بتفكيك الازمات الاخرى، ان صحت النوايا وصدقَ الساسة.