يوميات عيادة الغرفة الثالثة

08:20 - 2024-08-21
طالب المحسن

الداعي نيوز / مقالات 

لديَّ هوس مرضي للاحتفاظ بالحاجيات القديمة والتي لن استطيع التخلص منها فجعلتُ من الغرفة الثالثة مخزنا لها حيث تزدحم فيها السديات القديمة، الكراسي، سرنجات زجاجية، مساند، جبائر، عارضات اشعة، صداري بل حتى دفاتر لوصفات طبية وسجلات مرضى ماتوا منذ عقود، في كل سنة استدعي عمالا لترتيبها وتنظيفها وجعلها متحفا لعيادتي.
وانا خلف مكتبي، احدق بالمراجع منذ خطوته الاولى لدخول غرفة الفحص، في الحقيقة أمارس هذا السلوك ليس من باب الاستباق بالتشخيص وملاحظة طريقة المشي او اي اعتلال، بل انا احدق وارسل معها ابتسامة مقرونة مع كلمات الترحيب واعتبر هذا السلوك يعكس خلقا طبيا رفيعا.
احيانا ومع تقدمي بالعمر، صار المشهد مكتنزا بالفكاهة احيانا، حين يرتبك المريض او يتعثر او تضيع منه الكلمات، احيانا حين تأتي أمرأة ضخمة يتبعها رجل ذاو، وحين تشكوا المرأة الضخمة من امراضها، يضع زوجها الذاوي ساقا على ساق ثم يقول: ها دكتور، اتزوج عليها مو احسن؟.
في الحقيقة انا اجيبه ولكن مع نفسي اقول : وينك وين چروخك!.
لكن اليوم دخلت علي امرأة ضخمة وحدها، جلست قبالتي مرتبكة وهي تمسك عباءتها بيدها اليمنى حاجبة وجهها ماعدى عين واحدة، قالت بأنفعال وكأنها خائفة من شيء ما: دكتور هل يمكن غلق الباب بالمفتاح؟.
اجبتها بتوجس: لاداعي، لا أحد يجرؤ على فتحه.
ازاحت المرأة عباءتها واذا به الباشا، نعم انه الباشا، اخبرني بأنه مُطارد.
ازحتُ جزءا من ستارة النافذة خلفي، كان الشارع يموج بكتل بشرية وهيجان غريب، ماذا عليٌ ان افعل، سألت الباشا؟.
اريد الاختباء في عيادتك، فلا أحد يتوقع وجودي هنا.
صراحة انا ضد الهيجان وانفلات الامور عن عقالها وأخاف سيل الدماء لأني اعرف انها ستزهر جثثا كثيرة تعوق نمو الحياة، ثم انه الباشا الذي طالما رأيته على شاشة التلفزيون وفي المجلات وها هو أمامي في حال يرثى لها.
لديَّ الغرفة الثالثة، قد تصلح لك، اخبرته وأنا غارق في حيرتي. طلبتُ من السكرتيرة مغادرة العيادة التي رمقتني بنظرة استغراب ومضتْ.
دخل الباشا مخبأه، واخبرته بأريحية بعدما غربتْ الباشوية عن اسمه:  سأجلب لك الغذاء يا اخي وما تحتاجه. أحكمتُ اغلاق الغرفة الثالثة وكذلك العيادة وذهبت للبيت.
التلفزيون كان يعرض الهجوم على قصر الرحاب وجثث القتلى من العائلة المالكة، متضاهرين يلوحون بالعصي، السكاكين والمسدسات، اصابني المشهد بالخوف لأني صرت في لب القضية، أنا الذي تدفعني الاحداث دائما في دوامتها، يا الهي مالذي عليَّ فعله، كانت تلك الليلة طويلة جدا وفي الصباح ومن شاشة التلفزيون كانت الجموع تسحل الباشا وتقطعه الى اشلاء، صارت المصيبة كبيرة لأني اعرف انهم يسحلون مسكينا اخر لأن الباشا عندي.
في المساء، اتمشى صوب العيادة، وهناك رأيت الجموع البشرية تزدحم قربها وحين رآني صاحب العمارة، اخبرني وهو يلهث: الا تدري يا دكتور، لقد عثروا على الباشا في عيادتك، لقد خبأه المجرمون هنا.
مرَّ الموضوع بسلام وحين حاصر الانقلابيون الزعيم، تواصلتُ معه وهو في قاعة الشعب عارضا الغرفة الثالثة لكنه رفض العرض، حتى اني اتصلت بالبكر ليأتي وقلت له: يا اخي، ابو هيثم ان صاحبك لن يتركك ابدا.
لكنه وبأسلوب يائس شكى من امراضه الكثيرة وإن العمر لم يعد كافيا للهروب.
مرتديا الكوفية والعقال، مطلقا لحية زائغة ومتنكرة، دخل وهو يترنح بمشيتة متساءلا بغطرسة: يابه وين الغرفة الثالثة؟.
ذهبتُ معه اليها، حدق بجوانبها، تفحص الحاجيات القديمة واستفسر عنها وكأنه رئيس لكنه توقف عند السجلات وقال : هل هذه سجلات حزبية؟، اجبته: انها سجلات موتى. ضحك الاخ حتى هزّ كتفيه، قلت له:  هذه هي الغرفة.
لكنه تساءل بانزعاج: هذه ليست مخبأً، أين الحفرة؟.
اخبرتُ صاحب العمارة بحاجتي لتغيير البلاطات، وفعلا بدأ العمال بقلع البلاطات لكني طلبت من (الخلفة) ان يعمل حفرة نظامية في وسط الغرفة.
قال ( الخلفة) ضاحكا: هل تريد ان تدفن مرضاك؟.
بعدها عاد الاخ واستحسن الحفرة وهبط فيها.
طبعا تعرفون بقية الحكاية، لكني ومنذ تلك اللحظة والى اليوم أرى اخوة مراجعين للعيادة لا يشكون من امراض، انهم فقط يتسائلون عن الغرفة الثالثة وإن بعضهم ينزل في الحفرة لدقائق ويخرج منها، بل حتى انا انزل في الحفرة احيانا، اغني فيها مستعينا بالصدى حتى اسمع جمال صوتي، بينما تقف السكرتيرة في فم الحفرة وتردد: اذا طابتْ النفوس غنّت !.

تنويه: جميع المقالات المنشورة على موقعنا تعبر عن راي كاتبها

اختيار المحررين