لندرك المتبقي من مبانينا التراثية!!

08:08 - 2022-07-15
علي ناصر الكناني


الداعي نيوز / مقالات 


يقودني الحنين دائماً للقيام بين فترة وأخرى بالتجوال في أزقة عاصمتنا العزيزة بغداد ومحلاتها القديمة المنتشرة في جانبي كرخها ورصافتها، لأشمّ عبق رائحة التراث البغدادي الاصيل وقيمه الفريدة، فيكاد المرء يحس وهو يتأمل تلك الأبنية العتيقة التي ازدانت شرفاتها بالشناشيل والنقوش الخشبية الجميلة كأنها تنبؤه بأسرار وعراقة فن العمارة البغدادية، الذي كان للمعماريين (الاسطوات) أيام زمان دور كبير ومهم في وضع أصول وقواعد هذا الفن وطرقه ولعلّ هناك الكثير ممّن تثيرهم الدهشة ويدفعهم التساؤل عن هؤلاء المبدعين الذين لم نعد اليوم نتلمس أعمالهم ونستمتع بمشاهدتها كما كنا بالأمس وأيام زمان بعد أن توارثوا أسرارها أباً عن جد وكيف استطاع هؤلاء المبدعون اتقان تلك الفنون المعمارية من خلال تلك الأفكار التي كانت تنتابهم والتي تدلّل عن عمق الخبرة والتواصل لسنوات طوال وهم ينفذون ما ترتسم في أذهانهم من أشكال متوائمة مع الشكل والطراز المعماري للبناء وتصاميمه الإنشائية، بحكم امتلاكه للمعلومات الفنية والتقنية التي تخص الاستخدامات الخاصة لمواد البناء من ناحية الشكل والنوع وأسلوب وطرق التعامل معها، على الرغم من عدم تلقيه العلوم والمعارف الأكاديمية الخاصة بها، بل نجده قد تعلمها واتقن فنونها وأسرارها من خلال الممارسة العملية التي قد تمتد لعقود من الزمن، وقد نجد منهم ممّن لم يحالفه حذقه وذكاؤه بأن يتميز مثل أقرانه بامتلاك قدرات إبداعية تجعله في مصاف المتقدمين من هؤلاء ليتمكن من الاجتهاد والتنفيذ بشكل صحيح للتصاميم الخاصة بالبناء وتعيين المواد المطلوبة لذلك. 
ويشير المهندس المبدع هشام المدفعي في مقدمة أحد الكتب الصادرة في الثمانينات (عن صيانة الدور التراثية) بقوله:- 
(تمثل البيوت التقليدية في بغداد القمة العليا في فترة تطور طويلة الأمد). مؤكدا من: (انها تمثل حقاً جزءً لايعوض من تراث العراق ولكنها مهددة بالزوال بسبب التهرؤ والتجديد، إلاّ في حالة الحفاظ عليها وصيانتها). مشيراً إلى انه تم في تلك الفترة القيام بمسح العديد من البنايات التراثية وصيانة بعضها والتي كان من بينها سلسلة من البيوت المشيدة في بدايات القرن العشرين التي تقع الآن في الجزء المطور من شارع حيفا. 
ما أود الإشارة إليه هنا، انه في تلك الفترة أيضاً وأقصد في بداية الثمانينات ، صدر قرار مهم يقضي بالحفاظ على الدور والمباني التاريخية والتراثية المهددة بالزوال بسبب التهرؤ والتأثيرات البيئية والزمنية. 
حيث تم في حينها الاستعانة بخبرات إحدى الشركات الأجنبية واستقدام مقاولين وجهات منفذة متخصصة ممّن تتمتع كوادرهم بمهارات وخبرات عالية في مجال البناء والإعمار. 
إضافة إلى انه خلال الفترة الماضية التي أعقبت أحداث عام 2003 وفي ظل فوضى غياب التشريعات والقوانين الملزمة بعدم التعرض لتلك المباتي التي تعرض الكثير منها إلى الهدم والإزالة، لتشييد مباني أخرى بدلاً عنها تفتقر إلى الكثير من الشروط التصميمية التي من شأنها الحفاظ على استمرارية بقاء الطابع التراثي البغدادي على الرغم من كونها تقع ضمن مناطق تراثية وتاريخية قديمة، مما يستدعي الآن من الجهات المعنية تفعيل تلك القوانين والتشريعات السابقة بشكل جاد لنتمكن من الحفاظ على المتبقي من التراث العمراني لعاصمة الحضارة العربية بغداد الذي تميزت به عن سواها من المدن الأخرى حتى غدت سيدة لها على الإطلاق وبلا منازع وإلا ستتحول مبانيها إلى مجرد هياكل هندسية جامدة لاتنتمي من قريب أو بعيد إلى روح ذلك الإرث الأصيل الذي طالما تغنت به الدنيا وتفاخرت به على مرّ السنين والأزمان.

تنويه: جميع المقالات المنشورة على موقعنا تعبر عن راي كاتبها

اختيار المحررين